الجمعة، 10 يناير 2025

درويش 2025 !

 




لقد تم الترتيب للرحلة و انتهى الأمر!

هذة المرة سيغيب لوقت طويل فهو يريد عزلة حقيقية. لا يريد الإختلاط بأي شخص.
قام بتحضير بعض الملابس الثقيلة ، وسادة و دثار لأن الطقس في سانت كاترين شديد البرودة في الشتاء ، بعض الأطباق البلاستيكية و أدوات المائدة و إن كان لا يعرف حقًا ما سيأكله طوال فترة الشتاء أو إن كان سيملك مائدة حتى ! كذلك لا يعلم إن كان سيستضيفه أحد أم سيعتمد على شراء القليل من الطعام من اي مكان أو لربما أعطاه أحد قوت يومه مقابل القيام بأي عمل بسيط كتنظيف مكان أو نقل حجارة أو قطع الأخشاب.
لم يكن يعرف كذلك أين سيقضي أيامه القادمة ، لقد ترك كل شئ يأتي كما كتبه الله و لم يخطط لأي شئ.
لم يكن يريد أكثر من خلوة مع نفسه طوال فترة الشتاء قبل أن يعود للقاهرة مرة أخرى في بداية الربيع ، أو قد لا يعود مرة أخرى ابدا!

لطالما أرهقه القيل و القال و اللغط و العوادم و التلوث و الزحام و الأصوات العالية ، شجارات الجيران ، المجون ، اغواءات الحياه ، كل الحرام المُيسر له بأسهل الطرق ، التلفاز الذي لا يعرض إلا كل قبيح أو سخيف أو مُبتذل ، الهاتف الذي اصبح عبدًا له ، انعدام الأخلاق و الضمائر للفتيات و الشباب ، شعوره بأنه وحيد جدا وسط كل هذا لأنه لا يستطيع ان يكون مثلهم. لقد ضاقت نفسه حتى لم يعد يشعر أنه على قيد الحياه بإختصار أراد أن يكون درويشًا .

لو أنه يستطيع أن يتجول هائمًا طوال النهار و يكرس حياته للعبادة و يترك كل شئ خلفه و يبدأمن جديد لفعل ذلك على الفور.
لا مزيد من استخدام الهاتف و لا الألعاب ، لا مزيد من السهرات بدون هدف ، لا مزيد من الأخبار عن أي شئ و أي شخص ، لا مزيد من الصداقات و الشعور بالمسؤولية تجاه الآخرين. من هذه اللحظه أنا زاهد في كل شئ.
لا بد من إحضار المزيد من المؤن ، علب ثقاب ، خيمة قماشية احتياطية فهو لا يدري حقا أين سيقيم ، صابون ، نعل ، و وسط كل ذلك لم ينس مصحفه و سبحته.

قبل شهر من كل هذا فكر مع نفسه قائلا : الحل في خلوة طويلة المدى أو ربما خلوة ابدية. لذلك تجده في نهار بارد من نهارات شهر ديسمبر يقرر المغادرة. و لا يعلم لماذا اختار سانت كاترين بالذات؟ ربما لأن بها الكثير من الجبال
لشد ما تمنى أن يعيش في الجبال!
لديه حساب بنكي لا بأس به يمكنه إنقاذه إذا ما فشل و اضطر للرجوع و البدء من جديد ، و لديه شقة صغيرة فى أحد أحياء القاهرة شديدة الإزدحام ، و لكنه مأوى على أي حال
إذن هذة الخلوة لن تضره ، بل ربما تفيده أكثر مما يتصور. خلوة لا يفعل بها أي شئ سوى العبادة و تناول اليسير من الطعام الذي يبقيه على قيد الحياه. أما إذا احتاج إلى المال بأي شكل ، فربما يمكنه القيام بأي عمل بسيط لقاء أجر زهيد يكفي يومه و ربما يزيد.
قرر ترك هاتفه في المنزل حتى لا ينشغل بأي شئ آخر ، و إلا فما فائدة تتبع الأخبار و القيل و القال و هو اصلا يريد العزلة.
من اليوم و حتى نهاية الشتاء سأعيش كزاهد متفرغ للعبادة و لا شئ آخر.
لذا كما قلنا ، بعد أن أعد كل شئ قرر الذهاب إلى صديقه المقرب و الذي يقطن على بعد شارعين من بيته ليخبره برحلته هذه في حال إذا ما سأل عنه أحد من الجيران و حتى لا يتوقع أحد أنه ربما توفاه الله.

- اخيرًا أنت هنا ، لم أتوقع مجيئك اليوم. بصراحة لم تبد لي بأحسن حال منذ أن تقابلنا الأسبوع الماضي.
= سأغادر هذا المكان غدًا ، لم أعد أتحمل.
تغيرت ملامح وجه صديقه و استأنف : ماذا؟ هل ستنتقل للعيش في مكان آخر؟
و هنا قص عليه تفاصيل الرحلة و أسبابها 
= جئت فقط لأقول لك حتى لا تقلق من غيابي.
نظر له صديقه نظرة صامتة طويلة استغرقت حوالي دقيقتين شعر فيهما أنه انتقل إلى عالم آخر
و لما أفاق من جموده و أراد سؤال صديقه عن سبب تلك النظرة العميقة التي نفذت إلى أعماق روحه ، بادره صديقه بالكلام اخيرًا :

- لقد اخترت الطريق السهل إذًا !
= الطريق السهل؟ ماذا تقصد؟ هل تظن أن العيش في الجبال سيكون سهلا؟
- طبعا ! من أسهل ما يكون
= كيف ذلك؟
- هل تعتقد أن العيش في الجبال منفردًا سيحقق لك مبتغاك؟ لا توجد ضرورة ملحة لأن تغادر هذا العالم حاملا معك كل هذا السخط!
اسمع يا صديقي ، في الصحراء ربما تجد جو أكثر روحانية من هنا ، و من السهل عليك جدا أن تصبح راهبًا أو درويشًا لو أردت و لكنك لن تتمكن من التعرف على هذا العالم الذي تهجره و ستبقى دائمًا عرضة للإغواء و أضعف بكثير مما أنت عليه الآن.
أن تصبح درويشًا هنا في هذا المكان المكتظ بالناس و الاغواءات هذا هو بيت القصيد!

ساد الصمت لحظات قام بإلتقاط أنفاسه و صب لنفسه و لصديقه كوبين من الشاي
و أكمل قائلا : من الأهم و الأصعب بكثير أن يعيش المرء بين الناس و أن يبقى روحانيًا في نفس الوقت. أن تتحمل مسؤولية الحياه ، الإهتمام بالأصدقاء و الأقارب ، أن تتجاوز الضغط الدائم للمحيط ، أن تكون في خضم المسؤولية ، هذا أصعب بكثير أن تكون زاهدًا في الجبال.
رشف رشفة من الشاي و سألني : هل تعرف الفرق بين نكران الذات و التضحية؟
تلعثم و لم يستطع الرد 
سأشرح لك..
الكثير من الناس يمارسون التضحية و يشعرون بالأسى و يعتقدون أن هذا هو نكران الذات ... أن تحرم نفسك من كل مباهج الحياه ، و لكن في الواقع ، التضحية أدنى مرتبة من نكران الذات رغم أن كلاهما يقوم على نفس المبدأ ، أن تقدم نفسك قربان . و لكن الفرق هنا أن جوهر إنكار الذات مبني على تضحية أنت مستعد للقيام بها و تسعد بتقديمها ، إن نكران الذات لا ينطلق من المبادئ و إنما من المشاعر.
على سبيل المثال إذا كنت مسافر على متن قطار و جلس بجوارك رجل فقير و جائع و معك أنت قطعة خبز واحدة ، اذا اعطيتها الى هذا الرجل و نظرت اليه و هو يأكلها بسعادة فهذا هو نكران الذات . اما اذا ندمت على ما فعلت بعد ذلك و اصابك الجوع و تمنيت لو أنك لم تعطي الرجل الخبز فهذا ليس نكران ذات على الإطلاق.

= هل أصبحت فيلسوف فجأة؟ هل تحاول منعي من السفر؟
- أنا لا أفرض عليك أي شئ ، يمكنك السفر و العيش كما تريد و لكنك لن تصمد طويلا و ستعود أضعف و أكثر حساسية مما أنت عليه الآن
قل لي ، إذا كسرت ساقك و قام الطبيب بعمل جبيرة لها ، هل من الطبيعي أن يطلب منك أن تعيش بهذه الجبيرة للأبد أم أنك يجب أن تنزعها في مرحلة معينة حتى تدرب ساقك على الصمود و تقويها من جديد؟
هذا بالضبط ما أعنيه ، أنت تحاول أن تلف جسدك و حياتك بأكملها بجبيرة خوفًا من تيارات الهواء المفاجآة و لكنك ستنهار كقشة في أول مواجهة بعد نزع الجبيرة ، فروحك لم تكتسب مناعة تقبل الحياه و العيش في خضم هذة الضغوط.

الدرويش الحقيقي هو الذي يمكنه أن يعيش في الجبال إذا أراد و لكنه لا يجد حاجة مُلحة للبقاء هناك ، هو الذي يمكنه البقاء في فندق خمسة نجوم و يمكنه المبيت في الشارع و سيكون سعيدًا راضيًا في الحالتين لأن قلبه لا يميل إلى الفندق ولا إلى الشارع .
الدرويش الحقيقي يمكنه أن يأكل تارة اللحوم و الطيور و الفواكه و تارة أخرى كسرات الخبز الجافة دون أن يجد فرقًا حقيقًا في الطعم بينهم ، هو الذي يمكنه أن يمتلك كل ملذات الحياه و لكنه لا يشعر بأي فرق إذا خسرها لأنه أكثر دقة من باقي الناس و له وجهة نظر في تثمين الأشياء و معرفة قيمتها . لا فرق لديه إذا ارتدى قميصًا مرقعًا أو ثياب فاخرة
كل هذا لا يعنيه في شئ . الله في قلبه سواء أقام في الجبال أو في حي مقتظ بالسكان.

ساد صمت لبُرهة لم يقطعه سوى صوت دقات الساعة المُعلقة على الحائط
تكلم الآخر اخيرًا و قد خرج صوته مُحشرجًا من أثر الصمت : إذًا ماذا علي أن أفعل؟

ابتسم صديقه قائلا : التوازن!
= كيف يكون التوازن؟
- اسمع ، اذا لم نفهم الجوهر الحقيقي و طبع الحياه فنحن نخلق لأنفسنا التعقيدات. حوالي 5% فقط من التعقيدات سببها الشروط الحياتية ، و الباقية الـ 95% نحن السبب فيها.
= هل تعني أننا نخلق الصعوبات بنفسنا؟
- نحن نقوم بذلك يا صديقي عندما لا نرغب بالمقاومة في هذة الدنيا ، عندما نرفض الصدام و نرغب بالهدنة و التناغم فقط لكن يجب أن نعرف انه كي نصنع السلام يجب علينا أن نخوض الحرب ... الحرب مع الذات.
= من السهل أن تقول ذلك و لكن من الصعب أن تنفذه في خضم ما نعيش فيه الآن و في وسط الجنون المحيط بكل شئ!
- بالطبع أعرف أنه من الصعب فعل ذلك ، و لكن عليك أن تدرب نفسك - كما قُلت - يمكنك التعامل مع شتى أنواع الناس و الفتن و المشاكل و الكراهية و لكن الآهم أن تعود إلى محرابك في النهاية ، ذلك المكان المقدس الذي تمتلكه وحدك و لك حرية تقرير مصيره
= تقصد بيتي؟
- أقصد قلبك!
لقد قالها شاعر إنجليزي من قبل و أعتقد أن هذه الحكمة لا تفنى ، هل تعرف ماذا قال؟
ابتسم و قال :
= لا أعرف ، و لكنني متأكد من أنك تعرف و ستخبرني الآن
- إذا استطعت أن تحتفظ بعقلك بينما كل من حولك قد فقدوا عقولهم و يلومونك على ذلك..

 إذا استطعت أن تثق بنفسك بينما الناس تشك فيك، و برغم هذا تسمح لهم بأن يشكوا..

إذا استطعت الإنتظار فلا تتعب فإذا ما خدعك الآخرون لا تلجأ للكذب..

إذا كرهك الناس فلم تدع الكراهية تتغلب عليك... و برغم هذا لا تبدو راضيًا عن نفسك أو تتكلم بحكمة أكثر من اللازم...

 إذا استطعت التعامل مع الجماهير، و برغم هذا تحتفظ بفضائلك... و إذا مشيت مع الملوك و برغم هذا لا تفقد فهمك للناس..

إذا لم يستطع خصومك ولا اصدقائك أن يؤذوك ...

 إذا كنت تهتم بالناس جميعًا ، لكن لا تهتم بأحد أكثر من اللازم...
فلك الأرض وكل ما فيها و ما هو أهم ... ستكون رجلا يا بني.

ساد الصمت لوقت طويل أو احسبه كذلك ، تعمقت في التفكير كما لم أفعل من قبل و لم أحسب الوقت الذي مضى إلا أنني فقدت أي رغبة في السفر أو بمعنى أدق .. بالهروب!

= اعتقد أن معك حق ، ربما سأعطي نفسي فرصة و أفكر في كلامك من جديد ، سأبدأ صفحة جديدة بتفكير جديد و لكن عليك أن تساعدني ، كما انني أحتاج نوعًا ما لتجديد روح المنزل و لن أنسى قبلها بتجديد قلبي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق