الجمعة، 8 أبريل 2022

حول العالم فى ٥ دقائق!

أبريل 08, 2022 0 Comments

فى تلك الليلة من ليالِ شهر رمضان كان الشارع ساكنًا تمامًا.
و على الأرجح انتهى الناس للتو من طعام الإفطار و هم يتسامرون و يتناقشون عن أخبار المسلسلات و الفنانات قبل التحضر لصلاة العشاء
فى هذة اللحظة ايقنت شيئًا غريبًا ، و هو أن آخر مسلسل مصرى شاهدته كان حوالى منذ 4 سنوات
لم ادعى قط أننى لا أحب المسلسلات و لم أدعى ايضًا أننى ادمن مشاهدتها ، و لكننى دائما آخذ موقف الحياد. و طالما لم تعجبنى قصة مسلسل بعينه فليس لى حاجة أن أضيع وقتى فى متابعته يوميًا.
فكرت فى أن أغلب المسلسلات الحالية لا تشبه المجتمع المصرى ولا تدل على أصل البلد و الثقافة إطلاقًا ، إلى أن خطرت فى بالى فكرة أن أكتب ما أشعر به بصدق بصدد هذا الموضوع
فدخلت غرفتى الزرقاء ، محرابى الصغير الذى طالما شعرت فيه ببرودة تريح أعصابى و بدفئ يملأ قلبى ، و بدأت بكتابة هذة الكلمات التى تقرأونها الآن

هناك عبارة لم أحبها إجابة قط . ( لقد أصبح العالم قرية صغيرة ).
لماذا على العالم أن يصبح قرية صغيرة؟ و من يريد ذلك اصلاً؟

هل تحب أن تزور المدينة التى ترى فيها ناطحات السحاب فى كل مكان من حولك بينما أنوار المحال التجارية  و المطاعم تحيل الليل نهارًا؟
هل تحب أن ترى البيوت كلها على شكل واحد و نمط واحد؟
نفس ملابس الجينز و نفس شكل الشعر و الزينة للبنات فى كل مكان فى العالم لأن هذة هى (الموضة)؟
نفس الأجهزة الإلكترونية فى كل مكان؟
نفس الوجبات السريعة فى كل بلد و مدينة صغيرة؟
نفس عادات و تقاليد الزواج فى كل مكان لأنك شاهدت مقطع مصور على شبكة الإنترنت لعادات الزواج فى بلد ما و أردت أن تنفذها فى بلدك لأنها فكرة جديدة؟

ماذا سيحدث لو لم يكن العالم قرية صغيرة؟
إليك ما كان سيحدث
كنت ستزور تلك القرية فى بقعة نائية من العالم.
 فى نهاية طريق طينى ممهد طويل تجد البيوت المصنوعة من الحجر الرمادى متناثرة يمينًا و يساراً بشكل عشوائى ، خلف البيوت
تجد نساء القرية يرتدين الأردية الكتانية البيضاء مع رباط أحمر حريرى حول خصرهن و غطاء رأس دائرى مزين بالأزهار و الأقمشة الملونة الصغيرة ، يعملن فى نثر البذور فى تلك الأرض الزراعية ، بينما يجد الرجال فى حصاد محصول الأرز الذى تعتمد عليه القرية بشكل أساسى فى طعامها و إرساله للقرى المجاورة كذلك.
و قبل حلول الليل يعود الأطفال أدراجهم وقد أنهكهم اللعب و رسم أشكال عشوائية بالطبشور على الأرض ، بينما يرسمون أحلامهم فى عقلهم الصغير الذى يتسع للعالم بأسره
يجتمع أهل القرية فى المساء فى دائرة حول النار يتسامرون و يشربون مشروب الزهورات تحت ضوء القمر المكتمل ، يضحكون تارة و يتحدثون بجدية تارة
و يحلم أحدهم لو أنه ينال موافقة والد تلك الفتاه التى تجلس فى الجهة المقابلة و التى صبغها ضوء القمر بمسحة جمال لا شك فيها.

و ربما كنت ترحل عن تلك القرية إلى قرية أخرى أشد حرارة و أجساد أهلها أشد بأسًا و قوة و بشرتهم أكثر سمرة، يعيشون فى الصحراء فى بيوت صغيرة متلاصقة بلون الرمال.
يعمل أهل تلك القرية فى استخراج المعادن النفيسة من المناجم ، و بعضهم يروضون النمور و يعرفون جيدًا كيف يتعاملون إذا ما وجد أحدهم ثعبانًا سامًا . ذلك لأن الطبيب الساحر المقدس- كتقديس زعيم القبيلة نفسه - قد صنع لهم الأحجبة التى تقيهم لدغات العقارب و الثعابين و تحافظ على صحتهم
تمكث النساء فى البيت ليرضعن أطفالهن بينما تذهب الآخريات لجلب المياه من بئر ليست ببعيدة لتخزينها و استخدامها وقت الحاجة

أم أنك تعبت من شمس الصحراء و أردت الذهاب إلى تلك القبيلة التى تسكن ساحل المحيط؟
بعد قطع مسافة لا بأس بها فى غابة ذات أشجار متشابكة ، ستكون محظوظًا إذا حافظت على جسدك من الرطوبة القاتلة أو أنك لم تتعرض للدغ البعوض هنا
و بعد هذة الرحلة المرهقة داخل الغابة ستصل إلى ساحل المحيط الذى يمتد على طوله أكواخ من البوص يعيش فيها أهل القرية
و فى منتصف تلك الأكواخ تجد كوخ أكبر و أطول فى الحجم تزينه من الأعلى الورود القرمزية الداكنة 
أما الباب فتجده مزين بأوراق النخل الخضراء التى يبدو أنها قد وضعت للتو
يقابلك شخص يتحدث بلغة غريبة و تفهم منه بصعوبة أن القرية تشهد عُرسًا فى هذا اليوم ، لذلك تجد رائحة السمك المشوى تملأ الأرجاء . و قبل أن يكمل حديثه يضع طوق من الورد البنفسجى و الأبيض حول رقبتك و يمسك بيدك برفق ليدعوك إلى مجلس الضيوف.
تجلس على حصير من البوص برتقالى اللون و حولك بعض الأشخاص لا يبدو أنهم من تلك القرية ايضًا
تراقب المشهد من حولك لتفهم المزيد. هناك بعض النسوة اللاتى يرتدين فساتين قصيرة بلا أكمام متنوعة الألوان يولين ظهورهن للمحيط و يقفن أمام القدور الضخمة يطهين شئ ما لا تدرى كنهه
تسمع ضحكات الأطفال إلى يمينك فتراهم يتقافزون على الشاطئ يرمون بعضهم بالمياه بينما أنهمكت الصغيرات فى البحث عن الأصداف الصغيرة
من مسافة ما تلمح فتيات خمريات يرقصن بمرونة بالغة و قد أحطن خصرهن بحزام من النباتات المتدلى حتى القدم و يضعن تاج من البوص و الزهور على رؤوسهن و يضحكن فى مرح و يهجة.
بعد قليل يخرج من الكوخ الأكبر شاب يميل للسمرة ، نصفه العلوى عارِ تمامًا يكشف عن عضلات مفتولة و يرتدى نفس طوق الورود على رأسه و طوق على رقبته و لكنه يبدو أكبر و أكثر زهوًا ، تقف بجانبه فتاه غاية فى الحسن ترتدى الكثير من الزينة و الحلى التى تزين شعرها الطويل الأسود.
تدرك تلقائيًا أنها العروسان .  و يبدأ الإحتفال بقرع الطبول و الغناء و الرقص بينما يطوف بعض أهالى القرية على مجلس الضيوف - حيث تراقب المنظر - لتوزيع ثمرات جوز الهند و المانجو و التوت و عصير البرتقال و السمك المشوى 
تأكل فى تلذذ و لا تدرى هل يسر قلبك من الإحتفال أم من الطعام؟!

 بعد أن أنهكك السير تطير إلى أعلى التلال حيث يعيش بعض الكهنة الذين يغطون نصف أجسادهم بأردية من الكتان المصبوغ باللون البرتقالى.
تبدأ مع الوقت إدراك أهمية هذا اللون و قيمته لدى مختلف الناس
يصطف الكهنة حالقى رؤوسهم أمام معبد فى أعلى تل أمام معبد ذهبى يتوسطه جرس ذهبى كبير و أمامه تمثال ذهبى كذلك ، يضمون أيديهم فى إحترام و وقار و يتلون بعض الكلمات بلغة لا تفهمها ايضًا.
تشم رائحة بخور الصندل و النباتات فى كل مكان و عندما تحاول الإقتراب من الكهنة ، يطلب منك أحدهم ألا تفعل لأنك لا يحق لك دخول المكان بهذة الحالة.
تسير مبتعدا قليلا عن المعبد لتجد نهر جارى صغير أمامك يحيطه الكثير من النباتات ، تمد يدك لتشرب من ذلك النبع الصافى و تستريح تحت شجرة كبيرة تلقى بظلالها بجانب النهر.
يأتيك شخص آخر يريد أن يصطحبك معه فلا تدرى إلى أين و لكنك لا تبالى و تريد رؤية المزيد فى إصرار
تمشيان معًا بمحاذاه النهر فتجد مبنى مربع متوسط الحجم من الأحجار الأملس المصقول ، و مزين من الخارج بالشرائط الحمراء و العملات الذهبية و البرونزية التى تحمل رموز لا تفهم معناها
يطلب منك ذلك الشخص أن تخلع نعليك قبل الدخول فتفعل.
فى الداخل تجد رجل تخطى السبعين من عمره على أقل تقدير ضيق العينين مثل الكهنة الذين رأيتهم قبل قليل و لكنه ذو لحية طويلة بيضاء و شعر ابيض طويل مرتب، يرتدى عباءة طويله ذات أكمام واسعة و قد جلس القرفصاء و أمامه طاولة من خشب البلوط عليها الكثير من البرديات البنية و الصفراء ، يقلبها بين اصابعه فى اهتمام و رفق و يسند يده الأخرى على ذقنه
عندما يراك يبتسم فى وهن و ينظر إليك نظرة عميقة كأنه قد فهم شئ ما.
يبدأ التحدث فتفهمه على الفور ، هذا أول حديث مفهوم يدور منذ بداية الرحلة!
- قل لى يا فتى ، لماذا جئت هنا؟
- ترتبك و ترد بصوت متحشرج " جئت لأتعلم"
- و هل تعلمت شيئًا؟
- لا أدرى بالضبط أنا مرتبك فى الحقيقة ، الناس مختلفون تمامًا ، كل شئ يبدو مختلفًا
- يجب أن تعرف أن هذا كله لحكمة
- ما هى الحكمة؟ لماذا يبدو الناس بهذا الإختلاف؟ كيف يمكنهم التواصل مع بعضهم البعض؟
- عليك أن تدرك جيدًا أن كل اختلاف ما هو إلا إنسجام غير مفهوم ، عليك أن تتفكر و تدرك معنى هذا وحدك.
و هناك شئ آخر
- ماذا؟!
- يمكنك القيام بالعديد من الرحلات فى أى وقت تريده ، كل رحلة تترك بصمة فى داخلك و تحرر جزء من روحك و لكن الأهم أن لا تُعرٍف نفسك بشئ أنت لست عليه.. ابدًا.

أنهيت المقال عند هذا الحد و سرحت بخيالى فى العبارة التى قالها ذلك الحكيم و حاولت فهمها بشكل أعمق
أدركت أن فكرتى كانت صحيحة ، لكل مكان روح و زى و عادات طعام و شراب و لغة ، لماذا على الجميع أن يرتدى نفس الشئ و يضعون نفس الزينة و يصبغون شعرهم بذات اللون و يأكلون ذات الوجبة ؟!
لماذا على العالم أن يكون قرية واحدة صغيرة بينما يمكنه أن يكون أكبر من أن يتسع قلبك له؟!
 دق جرس هاتفى فأفزعنى قليلاً  و حمدت الله أننى أنهيت المقال فى الوقت المناسب قبل أن يتشتت فكرى. وجدت رسالة من صديقة لى فقرأتها ( هالة بقولك ايه ، تيجى معايا للكوافير قبل العيد بيومين؟ عايزة ألونه زى بطلة المسلسل اللى بييجي بعد الفطار ده عشان اللون عاجبنى موت ، ايه رأيك؟ ).